بنت البحر في مؤلفها الجديد   أجمل الفضائح
سفر ورحلة في الذات




المنـذر شريـّط
24/06/2007 جريدة الصحافـة



« بين عالم الذات والعالم الخارجي الذي يستهدف إنسانيتي سأمضي ممتشقة سلاحي: قلمي فاتركوني الآن! لأعد لكتابة نصي! ‏لأكتب بكل الأشكال وبكل الحركية التي عليها أقدر. إننا بالكتابة نعلن رفضنا لكل وائدي الحقائق وكاتمي الأصوات.» ‏لعل هذه الفقرة التي وردت في الصفحة 78 من المؤلَف الجديد للكاتبة والشاعرة حفيظة قارة بيبان هي أفضل ما يلخص أو بالأحرى يقدم الجنس الإبداعي لبنت البحر
فـ «أجمل الفضائح،» عنوان هذا المؤلف الصادر في أوت 2006 ضمن 162 صفحة من الحجم المتوسط عن الأطلسية للنشر هي فعلا رحلة جميلة في الزمان والمكان ، الجغرافيا والتاريخ ، الطفولة ، الشباب والكهولة لمبدعة اكتوت ولا تزال بنار النثر والشعر. ولأنها كائن متوسطي، فإنها لا تملك أن تجعل لعطشها ارتواء ولا لسفرها في الجغرافيا والأشياء حدودا ولا لرحيلها في الزمان انتهاء من محطات الطريق
‏تريد حفيظة قارة ببيان أن تكتب بكل الأشكال كتابات ترشح ببراءة الطفولة وجمالية الفضاء وسحر المكان وشاعرية اللحظة... ها هي تسرد ذلك في الفقرة الأولى من فصل "حكاية شرود" من هذا الكتاب: "طفلة كنت ومع ذلك تعلقت بالعرش. ألم يقل ذلك الشيخ الجليل للطفلة المأخوذة بعالم القصص والشعر في الكتب التي كانت تدمن، المتلهفة لاحتذاء درب الكتاب والشعراء "لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله"؟ ص 67
وها هي في مقطع آخر من فصل آخر من الكتاب "أنا... الآخر...وصور ثلاث" تروي هذه اللحظة الطفولية السرمدية والجانحة الخيال: "... كنت في الثالثة عشر من عمري مولعة، ككل أطفال العائلة بحكايات ألف ليلة وليلة ترويها لنا عمتي العجوز بكل براعة الحكائين عن علاء الدين والقصر المسحور وابنة السلطان...". ص 81. لقد كانت سيرة الطفولة بلحظاتها وحميميتها، في جناح المبدعين الكتاب والشعراء، نورهم نحو الخلق والتأسيس. لذلك تأتي نصوصهم وأعمالهم المختلفة محتفية بجمالية الفضاء، سحر المكان. تنقل لنا الكاتبة بنت البحر هذه التفاصيل في فقرة من فصل من الكتاب عنوانها "الخطر... والكتابة": "...أتساءل الآن عن مأتى توقي الجارف لكل ما هو شعري؟
‏هـل هـي طفولتـي المعبقـة بالفـن والجمـال في بيتنـا المفتـوح على البحـر والشجـر والممثليـن وأهـل الفـن؟ ص 76
. ‏الطفولة، الفضاء، لحظات الزمان والمكان يقبض عليها المبدع لتلهب روحه وتطلق خياله فتجنح به نحو الخلق والإبداع. ‏تواصل بنت البحر الفقرة نفسها "أتساءل الآن عن مأتى توقي الجارف لكل ما هو شعري؟ هل هي طفولتي المعبقة بالفن والجمال في بيتنا المفتوح على البحر والشجر والممثلين وأهل الفن؟ أم هي قراءاتي الأولى التي تركت أثرها ‏في الوجدان؟ ‏أم هي بذرة قديمة وطبيعة شاعرية ‏بالأساس تجعلني أتعلق بتلك الطاقة السحرية التي تشحنها المخيلة فتحتفي بكل قيمة جمالية؟ أم هو كل كذلك، جعل قانوني الوحيد مع الكلمات: الحرية وتجاوز الفواصل والتخوم لأجل كتابة صادقة مقنعة متوجهة؟" ص 76. ‏ذلك كان حصاد حفيظة قارة بيبان، توهج روحي وكتابة مرفرفة بعبق وجمالية اللحظات، يؤكد ذلك ما ذهب إليه الناقد والجامعي منجي الشملي في تصديره لهذا الكتاب: "إن هذا الكتاب سليل ثقافة جيدة مصادرها صافية ونوافذها مفتوحة... فيه قصة الكتابة كما نشأت عند – بنت البحر - .. كاتبة تحن إلى الماضي وتفتح مسالك الآتي فتحمد السرى... انه كتاب أوجاع القلم. محور نصوصه قائم على قلق يستبد بالمؤلفة" الغلاف الرابع للكتاب
إنه القلق الذي ينبعث من علاقة الكاتب باللغة، بجوهر السرد وبنيويّة النص وجنس الإبداع. تمضي الكاتبة في فقرات أخرى من مؤلفها تنقل هذه الإرهاصات: "...وهذه اللغة إذ أعطتني رعشة الخلق والمتعة وفتحت دروب المجهول، هل حققت انتصاري؟" وإلى أي مدى يمكن أن تمنحني متعة كتابة نص يكون موطنا لكل الفنون؟ نص أسمع موسيقاه وأشهد ألوانه وأضواءه وأرى مشاهده تتحرك حولي وتحرك من قارئي الأعماق؟ ص 93. ‏هي رعشة أخرى لمستوى آخر من الليبيدو الذي يمضي به فرويد إلى أبعد من الجنس. وها أن كاتبتنا التونسية حفيظة قارة بيبان تكتشف له بعد ادلر ويونغ تلامذة فرويد مستوى الخلق الأدبي والفني. ‏يأخذ الفن هنا مكانة الطهارة. يأتي في سرد الكاتبة ما يلي: "أخذتني رعشة الخلق وجنون الهوى وهزتني ثورتي على مدينة يكاد يأخذها الموج والانفتاح على كل الجهات ومع ذلك تخشى غواية النساء حين يتطهرن ‏بنبع الفن"
‏من أجمل الكتابات التي يحتويها الكتاب "أجمل الفضائح" نجد نص: معذرة غرناطة! هذه المدينة التي اقتحمتها الكاتبة وهي تستحضر أرقى شعراء الشرق والغرب من الغابرين والمعاصرين: من قيس ‏العامري إلى أراغون الذي أنشد في ‏غرناطة ما ذكرته قارة بيبان: "الشعر المملوك لمجد الملوك ومسرتهم فاختاري من الشعر ما هو على مقاسهم..." وككل المبدعين المتوحدين فقط بعوالمهم، وكينونتهم المتصادمة مع الجماعات: "الحافلة تمضي بنا سريعة طائرة في طريقها إلى غرناطة. تستقبلنا مدينة فالنسيا، لننزل، نشرب قهوة سريعة ونشعل بعض سجائر عند أبوابها، ونعود نركب مقاعد الرحيل. السماء غائمة غائمة، والشوارع الفسيحة صامتة مبللة. أهو القطر أم الندى بات يبكي ليل فالنسيا؟
وأصحاب الرحلة يثرثرون لماذا لا يسكتون؟!" ص 28. وفي مكان آخر تواصل ابنة البحر هذه الانسيابات في حضرة غرناطة: "... لم لا يسكتون؟ الحافلة تستعد للرحيل وغرناطة تدعوني وتخيفني! أخشى دخولها مع الآخرين

لهم مدينتهم ولي مدينتي
لهم ضجيجهم ولي صمتي
لهم جمعهم ولي وحدتي


ادخلها، وافتح ذاكرة التاريخ" ص 29. أهو الشاعر المتفرد بكونه وذاته وذاكرته؟ إنها هذه الذاكرة المولدة لتاريخه. فانظروا أو تأملوا ماذا تكتب هذه الشاعرة عن هذه المدينة القلعة الأخيرة ... «هذه غرناطة! غرناطة أي الرمانة بالاسبانية، عاصمة مملكة بني الأحمر من 1238 م. مركز الفن والثقافة وآخر معاقل العرب في إسبانيا. مدينة القيتارة والعود وآلات البندور وفن انسياق النغم وحده دون غناء، حتى نعت بها وعرف في شمال افريقيا باسم "كلام غرناطة". مدينة قيل أنها تخرب بيوتها بالماء والصابون الذي يغرق فيه الغرناطيون ثيابهم لكثرة ما يغسلون.» وتتواصل الرحلة بين ثنايا التاريخ الذي تردده الجغرافيا في اسبانيا التي فتحها ذات قرن ثان ميلادي طارق ابن زياد ليؤسس دولتها العربية الأموية... وأساسا العربية توشح أرضها بالأغنيات والفرح. «تركنا غرناطة، وليس معي منها غير صورة هيكل العربي الباقي في تربة الحمراء، وفي حقيبة يدي الرمانة الفضية رمز غرناطة وقد انشقت على حباتها الدامية
مضوا والحافلة تشق الجبال إلى "مالاقا" و "توروميلونوس" مدينة البحر والجبال والنخيل، حيث ينتظرنا أحد نزلها الساحلية. اليوم، سقط شهيد!" أعلن المذياع، فجرّ الفتى نفسه هناك في الأراضي السلبية.» ص 35
. وبين أرجاء الوطن العربي أراضي وأراضي سليبة ومواعيد مع التاريخ شربنا فيها من كأس المرارة 1948 – 1967 – 1982 – 2003 ... الخ. "من الشرق، جاءت أخبار الدم والأشلاء. وها هو على أطراف أصابعنا دمنا الذي لا نراه، نمتصه مع شراب المساء وسهرة الغناء وقائد الرحلة يعلن من بعيد عن مواقيت الغداء والعشاء. ما نفع المواعيد الآن؟ ونحن ضيعنا كل المواعيد." إن الكاتبة موجوعة فعلا بل مستبطنة الإثم. قد يكون ذلك وراء استهلالها لتسمية نصها بعبارة المعذرة. فالمتلقي لنصها ليس أمام وصف لرحلة من ذلك الذي يشي به أب الرحلات، بل لعل الجميع قبالة "ماينفستو" شبيه بذلك الذي أعلنته في القرن الثامن عشر كومونة باريس. إننا حيال كاتبة منتفضة بجسدها وروحها وطبعا قلمها
"سأرمي نفسي - بعد دقائق - في البحر الأندلسي المنادي، عله يغسل الدم العالق بي! سألقيني في البحر، قبل أن يجمّدني الجمع هنا على مقاعد الكسل والسكرة الأخيرة الفاجعة." إنه لأبلغ من ذلك، فالكاتبة تسافر بجسدها وروحها ليس فقط حيث المنظرين الثائرين من المثقفين العضويين كقرامشي ولينين بل أيضا حيث الأنبياء. فالبحر كان ملجأ الأنبياء والرسل من نوح إلى موسى


المنـذر شريـّط 24/06/2007 جريدة الصحافـة